عرفت المؤسسات التعليمية المغربية في السنوات الأخيرة ،تنامي ظاهرة العنف بشتى أشكاله وأنواعه،مما أثار انتباه العديد من المهتمين والدارسين،فأنجزت عدة أبحاث تربوية هامة تناولت الظاهرة ومنها البحث الميداني الذي أنجزه الأستاذ:محمد شكرير تحت عنوان:)ظاهرة العنف في المؤسسة التعليمية"ثانوية حمان الفطواكي
بالدشيرة نموذجا").وقد عالج الباحث الظاهرة من زاوية ردود أفعال العنف من التلاميذ وأوليائهم تجاه العاملين في المؤسسة التعليمية،هذا العنف الذي يتخذ أشكالا مختلفة سواء منها المباشرة:كالضرب والسب والشتم،آو التهديد ،وغير المباشر مثل:الكتابة والرسم على الجدران والطاولات،أو إلحاق الضرر بالتجهيزات وممتلكات العاملين،كما يتخذ هذا العنف أشكالا سلبية :كعدم المشاركة في الدرس، وقلة الاهتمام وتعمد عدم إحضار لوازم الدراسة،أو الامتناع عن الاستجابة لأوامر الأساتذة داخل القسم، وفي فضاءات المؤسسة وساحتها يتخذ العنف أشكالا أخرى يعبر عنه بشكل اللباس المستفز والمتعارض مع جو المؤسسة التربوية،والحركات والتجمعات المستفزة والتي فيها دعوة صريحة للاصطدام والمواجهة. وقد سجل البحث العلاقة القوية بين هذا العنف واستمرار الأساليب التربوية التقليدية في التعامل مع التلاميذ بمؤسساتنا التربوية، حيث يتم اللجوء إليها لضبط التلاميذ وإجبارهم على الخضوع دون بذل مجهود لإقناعهم بضرورة مشاركتهم في الانضباط لأعراف المؤسسة خدمة للمصلحة المشتركة لكل مكوناتها. وبينت الدراسة ان تلاميذ الجدع المشترك في أقسامه العلمية من أكثر المستويات شغبا ،خاصة في بعض المواد الأدبية التي يعتبرونها ثانوية بالنسبة لتخصصهم،إلا أن نوع المخالفات المسجلة على تلاميذ هذا المستوى من النوع الطفولي العفوي..بينما مخالفات تلاميذ السنة الأولى تتميز بكثرة الغياب وتزوير الشهادات الطبية واو إتلاف أوراق مراقبة الغياب،في حين تصدر مخالفات بالسنة الثانية عن المحبطين ،خاصة منهم الذين حصلوا على معدلات متدنية في الامتحان الجهوي.
السب والشتم في حق التلاميذ سبب رئيسي في ردود أفعالهم العنيفة حسب نتائج استمارة البحث احتل السب والشتم في حق التلاميذ المرتبة الأولى من بين الأسباب المؤدية إلى ردود الفعل العنيفة للتلاميذ تجاه العاملين بالمؤسسة،حيث بلغت النسبة 86.96% لدى تلاميذ مستوى الجدع المشترك،و76.19% عند تلاميذ السنة الأولى بكالوريا و73.33% من تلاميذ السنة الثانية بكالوريا، وجاءت عقوبة النقص من النقط في المرتبة الثانية التي كانت نسبتها للمستويات الثلاثة على التوالي بما يلي:82.11% و66.67% و63.33% وفي المرتبة الثالثة ،ما يعتبره التلاميذ ظلما في حقهم بعدم العدل في التصحيح وبالتالي التنقيط،حيث بلغت النسبة :73.91% بالجدع المشترك و71.43% بالسنة الأولى بكالوريا % و63.33 بالسنة الثانية.
هذه المعطيات تؤشر بشكل كبير على أن الأساليب التربوية التقليدية لازالت تستعمل لدى العاملين في الحقل التربوي هاجسهم الضبط لا الانضباط، كما تؤشر على عدم قدرة مؤسساتنا التربوية مسايرة سرعة التحولات الاجتماعية والثقافية التي تعرفها البلاد،بما لها من خصائص متشابكة،الأمر الذي يفرض على الجميع العمل لتهيئ المؤسسة التربوية المناسبة لمراعاة شخصية الطفل والمراهق في ظل ما يزخر به الواقع من معطيات وما يحبل به الغد من احتمالات . صعوبة التوفيق بين النظرية والتطبيق وتبرز النسبة المعبر عنها للمستويات الثلاثة،بخصوص عدم التسامح من طرف العاملين مع التلميذ في حالة ارتكابه لمخالفة ما،(والتي جاءت على التوالي كما يلي:78.62% و71.43% و56.67%) الصعوبات التي تعترض العملية التعليمية –التعلمية في أداء مهمتها كي تستطيع أن تقدر المراهقة كمرحلة وتتفهم توابعها السلوكية والاجتماعية،إلا أن ضغط قلة الإمكانات المادية والبشرية تحول دون قدرة المؤسسات على التوفيق بين النظرية والتطبيق.كما تحول دون تنفيذ ما يخط في المذكرات والتوجيهات الوزارية التي لا تراعي واقع المؤسسات المزري.
وبكون تلاميذ الثانوي جلهم بمرحلة المراهقة التي يبحث فيها الشخص عن إثبات ذاته وشخصيته ،فإنهم يعتبرون كل الملاحظات المتعلقة بهيئتهم أو لباسهم ،تدخلا في حريتهم،لذلك يرفضونها،وقد تدرج ارتفاع نسبة الرفض من الجدع المشترك إلى السنة الثانية ،والتي هي على الشكل التالي:52.17% و61.90% و80% ،ويزيد من حدة ذلك عدم الانضباط للباس الموحد،والتعارض الحاصل بين المراهق المار بمرحلة ذات خصوصيات وبين الهياكل والأنساق التربوية والمؤسسية المتصلبة،والتي لم تعد تستجيب للمتغيرات الحاصلة على مستوى الواقع النفسي وللمراهقين. أما بخصوص عدم انجاز الواجبات الدراسية،فيرى التلاميذ أن الظروف الاجتماعية المحيطة بهم هي التي تجعلهم لا يحضرون كتبهم أو ينجزون تمارينهم،وان ردود فعلهم العنيفة ليست سوى ردا على عدم تفهم الأساتذة لظروفهم الاجتماعية والأسرية. وقد ذكر التلاميذ أفعالا أخرى يعتبرونها سببا في العنف تجاه الأطر التربوية ،منها:عدم المساواة بين التلاميذ وغياب الأنشطة التربوية والاجتماعية داخل المؤسسات ،وبعض التصرفات غير التربوية لبعض الأطر مثل:التدخين والتلفظ بألفاظ قبيحة من قبل الأساتذة داخل الفصل،والافتخار بالنفس من حيث المظهر والثقافة ،والتقصير في الشرح والإفهام وأداء الواجب ،بالإضافة إلى الاستهزاء من التلاميذ وعدم مساعدتهم على انجاز ما يعجزون عنه من دروس وتمارين تطبيقية.
الباحث اعتبر نتائج المستخلصة من إجابات التلاميذ،تطرح أسئلة عديدة حول مدى سلامة نظامنا التربوي وقدرته على تأدية الوظائف المنوطة به،والتي ليست مقتصرة على توصيل المعارف واكتساب قدر من المهارات،بقدر ما هي مطالبة بالنجاح في تكوين التلميذ القادر على الإبداع والابتكار والمكتسب لكفايات تؤهله للتكيف مع الوضعيات الحياتية والمستجدات المحيطة به ،بما يحفظ كينونته وذاته. ويرى الأساتذة أن عنف التلاميذ يتراوح بين (الهمهمة) وهز الكتف،أو الرد اللفظي الرافض والمحتج إلى التهديد بالضرب ،وتنخفض نسبة ردود أفعال التلاميذ في السنة الثانية ،ربما لكون التلاميذ قد قاربوا اجتياز مرحلة المراهقة، واتجاههم نحو التأقلم والانسجام،وتوجيه الطاقة نحو العمل الدراسي. وترى نسبة76.92% من الاساتذة بالجدع المشتركان سب التلميذ أو ضربه يرد هذا الأخير بشكل من أشكال العنف،وفي السنة الأولى تصل النسبة 80% وفي السنة الثانية%64 ،وهذا يؤكد ما سبق ذكره من أن الأساليب التربوية التقليدية ما تزال سارية المفعول في الممارسة التربوية ...ب
ينما تنخفض نسبة العنف بخصوص عدم انجاز التمارين والواجبات المنزلية وإحضار الأدوات،ويرى الباحث أن ذلك ربما يعود لكون التلاميذ يعتبرونه يدخل في إطار تعليمهم وتكوينهم، لذلك فهم ليسوا ضد إلحاح الأستاذ على مشاركتهم في الدرس ولكنهم ضد تجاهله للظروف المحيطة بهم. كما يرى الأساتذة إن بعض الظواهر التي تعرفها المؤسسات مثل:اللامبالاة بالدراسة،والغياب المتكرر،واعتبار الدراسة مضيعة للوقت من طرف بعض التلاميذ والإباء، تساءلنا كتربويين لإعادة النظر في علاقة المدرسة بمحيطها،وبسوق الشغل ،وبكل ماله علاقة بالعملية التربوية التكوينية. كما يرى بعض الأساتذة أن ظاهرة ضعف المستوى التي أصبحت عامة،ومثيرة للانتباه،بحاجة ماسة للدراسة والبحث عن حلول لها لتجاوز أخطاء نظامنا التربوي والخلل الذي أصاب روح أداء الواجب ...
أما الحراس العامون والمعيدون فيرون أن العوامل والأسباب المسؤولة عن حدوث العنف تجاههم تتمثل في امتناعهم عن منح ورقة السماح بالدخول للمتغيبين أو المتأخرين أو عدم منح ورقة الاستشفاء لمن يظهر انه يتهرب من الدرس أو الفرض المحروس، إذ لا يقبل التلاميذ هذا الرفض ،ويؤدي بهم إلى ردود فعل عنيفة بأشكال مختلفة... ويرى الباحث أن البنية العميقة لهذا الرفض والسلوك،هو حرص المراهق كغيره من فئات المجتمع للحفاظ على كيانه.. كما لاحظ أن الأطر الإدارية والتربوية ربما تحت ضغط قلة الإمكانات البشرية والمادية لا تولي أهمية لهذا الأمر، ،وتتجاهل أن الفهم العميق لمراحل النمو وما يصاحبها من تغيرات على سائر المستويات سواء الفيزيولوجية آو النفسية والعقلية لا قيمة له إذا لم يترجم إلى ممارسة ،لاسيما أن المحيط الأوسع يدعو إلى الرفع من قيمة الإنسان والمحافظة على حقوقه.
وخلصت الدراسة إلى بعض الإجراءات التي يجب القيام بها كما يراها الباحث ومنها: إعادة النظر في كل عناصر العملية التربوية،سواء ما تعلق منها بالمقررات الدراسية لتلبية حاجيات التلاميذ النفسية والاجتماعية،أو بأساليب التقييم والخريطة المدرسية،وإستراتيجية التعليم والتعلم، وكذلك كل ما يتعلق بتكوين و تأطير المنفذين للعملية التعليمية ،بشكل يستجيب للمتغيرات الحاصلة والمحيطة بالتربية والتكوين ..للوعي بها وتفهم كل ما يدور للحد من بؤر الصدام مع التلميذ..وذلك بتطوير أساليب التعامل مع التلميذ المراهق،فبدلا من السلطوية،يجب الالتجاء إلى التفاهم والتفهم لكل ما له علاقة بالتلميذ من ظروف قد تكون لها انعكاسات سلبية على نفسيته،كالفقر والتفكك الأسري...
ولم يفت الباحث الدعوة إلى التعاون بين الأسرة والمدرسة للقيام بدورهما التربوي لتنشئة الأجيال تنشئة سليمة.والى ضرورة معالجة الإهمال الكبير للأنشطة التربوية والترفيهية داخل المؤسسات،باعتبارها مكونا تربويا لا ينبغي التفريط فيه ،لأنها تحقق للتلاميذ الترفيه والتحرر من القسم ورتابة الدرس والمقرر،و تفسح المجال لذاتهم لتعبر عن نفسها وتنفلت من قبضة التكرار والرقابة،وتحقق في نفس الوقت التعلم واكتساب قيم الحياة البشرية المبنية على التعاون والتضحية،وامتزاج الفردي بالجماعي، كما تتيح الفرصة لإزاحة الحواجز بين التلاميذ والأطر التربوية وتقلص الفوارق بين التلاميذ،وتفتح المجال واسعا للإبداع والابتكار وتنمية المواهب . ملاحظة:نشرت هذه المقالة بجريدة الانبعاث الجهويةباكادير محمد الزعماري
محمد الزعماري
|